يتساءل البعض عن معنى الحرمان، وعن تسمية “حركة المحرومين”، ولا يتوانى هذا “البعض” عن ربط اسم “الحركة” بأسماء بعض المنتمين إليها، ليس بقصد النيل منها فحسب، بل ليتجاوزها إلى معنى “الحرمان” بشكل عام عن طريق التساؤل غير البريء عن “فلان” الميسور اقتصاديا عما إذا كان من المحرومين؟! ويكون المتسائل قد ضرب عصفورين بحجر واحد، بأن حجم الحرمان وحصره بمعناه الاقتصادي وبالتالي شكك فيه وفي معناه المحصور.
فمما لا شك فيه أن “الحركة” لو كانت مدعوة لاختيار اسم لها، بالتأكيد لما اختارت اسم “حركة المحرومين”، وبالتأكيد لكانت اختارت الاسم الذي يشير إلى الحالة التي تسعى إليها بعد إزالة الحرمان. ولكن هذه التسمية كانت قد فرضت نفسها على الدولة، قبل أن تفرض نفسها على الحركة، ذلك لأن الدولة اضطرت على إطلاقها في أوائل الستينات على المناطق غير المحظية وتسميتها بالمناطق المحرومة، بحيث سادت هذه التسمية على الأسماء الأساسية لتلك المناطق. ولم يقتصر ورود التسمية على تقارير الخبراء (كبعثة إيرفد) و(الأب دوبريه)، بل تعداها إلى البيانات الوزارية، وإلى التشريعات المالية، وليس أدل على ذلك من تسمية “طرق القرى المحرومة” في موازنات الدولة العامة… هذا من حيث مصدر التسمية.
أما من حيث الواقع، فإن الدولة لم تكن مخطئة في هذه التسمية، التي تدل دلالة حقيقية على واقع الحال، وتدل على شمول الحرمان في معظم المناطق اللبنانية، ويصيب معظم المواطنين وعلى مختلف المستويات، ولا يمكن بحال من الأحوال حصر الحرمان بمعناه الاقتصادي، وإلا لكان تغير الطرح من الأساس، ولكان أمكن اختصار الطريق وحل المعضلة بأبسط الوسائل، لتشكل “نقابة” للمحرومين اقتصاديا تتفاهم مع “حارميهم” ﴿وكفى الله المؤمنين القتال﴾ [الأحزاب، 25].
غير أننا عندما نريد تحديد معاني “الحرمان” يتضح لنا، أن “الحرمان الاقتصادي” إنما يأتي في الدرجة الدنيا من سلم الحرمان، كما يأتي كنتيجة لأسباب الحرمان وليس كسبب لها، وعلى سبيل المثل:
– أوليس حرمان المواطن الأصيل من “بطاقة الهوية” حرمان أساسي يؤدي إلى حرمانه من التمتع بحقوق المواطنية؟! ويؤدي إلى حرمان الوطن من الإفادة من حقوقه تجاه هذا المواطن؟!
– أوليس حرمان المواطن “حامل بطاقة الهوية” من اعتباره مواطنا حقيقيا، وتصنيفه في درجات دنيا، بسبب انتمائه الطائفي أو الإقليمي حرمان أساسي، يؤدي إلى الإساءة إلى كرامته، وإلى الحيلولة دون انتمائه إلى وطنه الانتماء الصحيح؟!
– أوليس حرمان المواطن من بناء دولة ذات قوانين ومؤسسات لوطنه، حرمان أساسي يؤدي إلى بقاء الدولة، دولة أشخاص، أشبه شيء بمزرعة، ويحول دون تمتع المواطن بخدمات الدولة الحقيقية ومؤسساتها، أمنيا وصحيا واجتماعيا واقتصاديا؟!
– أوليس حرمان المواطن من المساواة مع مواطن آخر، بسبب انتمائه الطائفي أو الإقليمي حرمان أساسي يؤدي إلى جعل أرض الوطن صالحة دائما لقيام حالة عدم الاستقرار؟!
– أوليس حرمان مناطق معينة من الوطن، من اعتبارها موجودة على خريطة الوطن، حرمان أساسي، يؤدي إلى غضبة أبناء هذه المناطق: الثري اقتصاديا، فضلا عن المحروم؟!
– أوليس حرمان منطقة حدودية مع العدو، من الحماية والرعاية والاهتمام، حرمان أساسي يؤدي إلى الهجرة منها وإلى الاضطراب المعيشي وحتى إلى الكفر بالوطن؟!
– أوليس حرمان المواطن اللبناني من التماثل مع مواطن آخر في وطن آخر، حرمان أساسي يؤدي إلى الشعور بالذل والعار فضلا عن الحرمان؟!
– حتى الوزير، أو من هو أكبر من الوزير عندما يأتي إلى مركزه وفقا للتصنيف الطائفي والإقليمي، أو ليس ممارسته ومعاملته، تكون في ظل الشعور بالحرمان؟! وهكذا على مختلف الأصعدة.
من هنا يتبين أن المحرومين ليس أمرا كميا فحسب، بل هو في الأساس، علاقة تقوم بينهم وبين من “يحرمهم”، تحدد لهم موقعا اجتماعيا. وإزالة الحرمان تعني تبديلا أساسيا في المواقع الاجتماعية:
– في نشوء قوة اجتماعية هي قوة “المحرومين” قبل إزالة الحرمان.
– وفي نشوء علاقة من المساواة بين المواطنين وبين مناطق الوطن، بعد إزالة الحرمان.
و”المحروم” وبطبيعة موقعه، هو المؤمن بديمومة وطنه، وهو الذي يجاهد ويضاعف الجهد في سبيل حماية وطنه، وفي جعله وطنا حقيقيا، كسائر الأوطان. و”الحارم” وبطبيعة موقعه، هو غير المؤمن بديمومة وطنه، وهو الذي يتصرف تصرف المستأجر الذي لا تهمه سلامة المأجور، وليس أدل على ذلك من الذين استوطنوا بلادا أخرى إبان محنة وطنهم، وعادوا ليستأثروا بالأسلاب والمغانم “فور هدوء العاصفة”. بينما “المحروم” بقي على أرض وطنه ودافع عنها واستشهد في سبيلها، وكتب بدمائه أروع مواثيق الولاء لها.
والذين يعتقدون بإمكانية عودة لبنان إلى ما كان عليه مع حالات الحرمان، لا بد وأنهم يمثلون بصورة من الصور أهل الكهف، وبالتالي يستحقون الشفقة والرثاء، فلا عودة لحالة الحرمان ولا عودة لدولة الأشخاص.
الإمام القائد السيد موسى الصدر
صوت المحرومين: مقال افتتاحي – السبت 17/5/1977